حرائق نينوى..
إبراهيم بادل (نقلاً عن مجلة “أثرا”)
في السيمفونية الآشورية والقيثارة البابلية
* الموسيقى والإنسان:ولدت الموسيقى مع ولادة أول إنسان وسترافقه في جميع مراحل حياته من المهد إلى اللحد إن لم نقل في السماء أيضا حيث أجواق الملائكة تسبح وتمجد الخالق من الأزل وإلى الأبد بأنغامها وأناشيدها الساحرة(1) فالموسيقى وحدها على أنواعها كغريزة تعبر عن شعور الإنسان الباطني والظاهري, عن إيمانه ورجائه, عن أفراحه وسعادته, عن أوجاعه وأحزانه. كما أن غناء الأم وهدهدتها من شأنها تهدئة رضيعها عن بكائه ويكون سبب انشراحه.
يرجع كتاب العهد القديم أصل الموسيقى إلى يابال أحد أحفاد قائين بن آدم إذ يقول: (فولدت عادة يابال وهو أبو ساكني الخيام ورعاة المواشي. واسم أخيه يوبال وهو أبو كل عازف بالكنارة والمزمار) (2)
لقد عاصر ميلاد الموسيقى عند السومريين في بلاد ما بين النهرين (مهد الحضارة والرقي, مولد الدين السومري, فهي قديمة بقدمه وشاركته في أداء طقوسه التي يمثل الغناء فيها ركنا جوهريا. فمنذ قرابة العام 3000 ق.م نجد موسيقاريين يقودون فرقا للإنشاد في معبد (ننجرسو) الكبير وغيره. ولم يستعمل الإنسان البدائي الموسيقى في الطقوس الدينية فحسب.. بل في مختلف الاحتفالات وفي رقصات المناسبات وثمة نقوشا ومشاهد كثيرة بينها الرعاة الماشية وهم ينفخون في المزمار ويعزفون في الطنبور ومن حولهم قطعانهم وكلاببهم هادئة مصغية. ويعيد العلامة (هــ . م . ميللر) نشأة الموسيقى إلى مصادر بدائية كقرع الطبول والنداء المنغم – كما: الراوي الآشورية.. والتي لا يزال صداها باقيا يتردد بيننا حتى اليوم – وهما أقدم وسائل الاتصال بين الناس.. ثم الترنيمات التي تصاحب حركة عمل الإنسان ومنابع انفعالاته وإحساسه الفكري.
* حرائق نينوى:الملحمة الموسيقية الآشورية(3) والتي تتكون من أربع مقاطع . يصف فيها المقطع الأول.. عظمة الإمبراطورية الآشورية ويستعرض جيشها النظامي. والمقطع الثاني.. الذي يرمز إلى تآمر وتكالب قوى الأعداء لأضعاف هذه الإمبراطورية ويستعرض المقطع الثالث في هذه (السيمفونية الملحمية) المعارك الطاحنة التي دارت رحاها بين الجيش الآشوري وجيوش الأعداء المتحالفة. والمقطع الرابع الذي يتجسد فيه الدمار والخراب, ويغلب عليه طابع الحزن والأسى لما حل بنينوى من حرائق.
وفي رأي المشتغلين بالموسيقى.. إن هذه السيمفونية هي أعظم وأكمل عمل موسيقي ملحمي وجد حتى اليوم. وقد عزفته الكثير من الفرق الموسيقية العالمية الكبيرة. وفي أكثر من مناسبة خلال العقد والنصف الأخيرين من القرن العشرين. وأوائل العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. والجدير بالذكر أن هذه المقطوعة هي من تأليف موسيقي آشوري من القرن السابع قبل الميلاد عثر عليها مدونة على رقم طينية بين خرائب نينوى.
* القيثارة البابلية – الكلدانية:تعتبر القيثارة إحدى أقدم آلات النغم الموسيقية (ذوي أوتار) اشتهرت منذ القدم لدى شعوب كثيرة وقد استعملها سكان بلاد ما بين النهرين قبل غيرهم. عثر على أكثر من قيثارة في بابل وفي أور الكلدانيين وفي بلاد آشور, واقتبسها عنهم سائر الشعوب كبقية الآلات الموسيقية القديمة العهد. الصورة تمثل إحدى القيثارات الشهيرة ذات أحد عشر وترا وجدت في قبر الملكة (بو – آبي) في مدينة أور ويعود تاريخها إلى عام 2700 ق . م. ولا تزال المتاحف العالمية الكبرى تحتفظ بنماذج من هذه القيثارات كالمتحف العراقي – ولا نعرف الآن إن كانت قد بقيت فيه بعد الخراب والدمار الذي لحق به بفعل الحرب الأمريكية الإسرائيلية الإنكليزية الظالمة على العراق – والمتحف البريطاني ومتحف اللوفر ومتحف شيكاغو وفيلادلفيا وغيرها…
وهي (أي القيثارة) مطعمة بالصدف والذهب وصندوقها الرنان مصنوع من الخشب المصقول والموشح بأحجار كريمة والفسيفساء من لازورد وصدف. كما أنها مزينة برأس ثور ذو لحية من ذهب وعيناه مرصعتان باللؤلؤ واللازورد سميت بالقيثارة البابلية – الكلدانية ربما لأن أقدم أثر للآلات الموسيقية من نوع القيثارة وجد في ( تلو) في جنوبي بابل . ثم في أور الكلدانيين. أما رأس الثور الذي نجده في مقدمة هذه القيثارات فأنه يرمز إلى القوة والخصوبة التي كانت منذ الألف السابع ق . م. أعظم الأعياد على اعتبارها عملا من الأعمال الإلهية . ولهذا السبب كان السومريون يتخذون من الثور رمزا مرتبطا بالإله (آبو) إله الخصوبة والنبات.
* الآلات الموسيقية الإيقاعية لدى سكان بلاد ما بين النهرين:كانت الآلات الذاتية الصوت تستعمل كثيرا في بلاد ما بين النهرين.. منها:
أ- العصي الإيقاعية: وتتكون من عصاتين عريضتين ملويتين بإمكان المرء أن يمسكها بين يديه فيضرب الواحدة بالأخرى فترسل تصفيفا إيقاعيا.
ب – المصفقات: وهي عبارة عن قطعتين على هيئة قدمي رجل تقرع الواحدة بالأخرى فتخرج صوتا موسيقيا . كما يشاهد في خاتم من (أور) محفوظ في متحف جامعة فيلادلفيا يعود تاريخه إلى عام 2600 ق . م. نقشت عليه صورة حيوان صغير يقوم باستعمالها.
جـ – الشخاليل: وهي على هيئة صنجة صغيرة مرتبطة بآلة معدنية تعطي صوتا عند هزها من مقبضها.
د – الأجراس الصغيرة: كانت الراقصات يعلقنها في عنقهن لضبط الإيقاع كما أنها كانت تستعمل في المناسبات والطقوس الدينية أيضا.
هـ – الصنوج: والصنوج نوعان. صنوج التصويت وصنوج الهاتف(4). فالنوع الأول هو عبارة عن قطع صغيرة مستديرة من النحاس تستعملها الراقصات. والنوع الثاني هو من الصنوج المعهودة وهي صفيحتان مستديرتان من النحاس إذا ضربت أحدها بالأخرى رنت (5).
و – الصلاصل: وردت مصورة على قطعة مطعمة بالصدف من (أور) قرابة 2500 ق. م وهي آلة معدنية شبيهة بملقط يحمل في ساقيه نوعا من الصنوج المتحركة تخرج صوتا موسيقيا إيقاعيا عند اهتزاز الآلة وارتطام الصنوج ببعضها.
ز – الجلاجل: وهي عبارة عن تماثيل على شكل دمى صغيرة من الفخار المجفف كانت تملأ بالحصى بغية هدهدة الأطفال وملاطفتهم. وكانت تصنع من الذهب أيضا وتعلق على أذيال رداءرئيس الكهنة عند دخوله قدس الأقداس وخروجه منه لتعطي صوتا موسيقيا.
* الآلات الذاتية الصوت:1- الدف: آلة طرب يطلق عليه اسم (طبل اليد) وهو عبارة عن قطعة من الجلد الرقيق مشدود إلى إطار من الخشب شدا محكما قويا بحيث إذا ما اتقن توقيع ضرب اليد عليه, على نغم خاص.. أعطى صوتا موسيقيا وكثيرا ما تعلق في أطراف الإطار الخشبي أجراس صغيرة زيادة في الإيقاع . وكان الدف يستعمل كثيرا في الحفلات فتقوم النساء بالضرب عليه مصطحبات به الغناء فيرقص الراقصون على أنغامه وكانت تستخدمه المحترفات والماهرات من كاهنات المعابد في بلاد ما بين النهرين. ويستعمل الدف مع غيره من الالات الموسيقية لمرافقة الجوقات في ترانيمها. (ثم أخذت مريم النبية أخت هارون الدف في يدها وخرجت النساء كلهن وراءها بدفوف ورقص)(6).
2- الطبل: كان السومريون يستعملون أنواعا مختلفة من الطبول بأشكال وهيئات وأحجام متعددة متفاوتة . يعدد العالم الموسيقي(زاكس) اثني عشر نوعا من الطبول وذلك لوجود اثني عشر اسما لها في اللغة السومرية.
نجد في متحف اللوفر (طبلة) يعود تاريخها إلى سنة 2400 ق.م وأخرى في متحف استنبول ترجع إلى عام 2900 ق.م ثمَّ تنوعت الطبول فيما بعد في النقوش البابلية – الكلدانية والآشورية بين كبيرة وصغيرة تمسك باليد أو تحمل رأسية أو أفقية معلقة بحزام يلتف حول وسط العازف. وكانت الطبول تصاحب العزف على الناي والبوق وكانت لها قدسية خاصة. وكان أجدادنا القدامى يدقون الطبول لإثارة الحزن والنواح على القمر المختفي أيام الخسوف الكلي, نظرا لعبادتهم (للإله القمر) ومكانته المقدسة عندهم. وما تزال هذه العادة جارية في معظم القرى والأرياف في بلاد ما بين النهرين.
* الآلات الوترية:لقد امتاز أهل بلاد ما بين النهرين بالآلات الوترية وهم الذين اخترعوها وتفننوا بتنويعها. العود.. آلة للطرب وجدت منذ القدم وعرفتها شعوب شرقية كثيرة ولا تزال تستعمل إلى اليوم. وكان العود يستعمل في مناسبات عديدة. ويذكر كتاب العهد القديم أن مخترعه يوبال ابن لامك . وتمتاز العيدان الأولى المصورة في النقوش التي ترجع إلى 2350 – 2150 ق. م. بصغر صندوقها وطول رقبتها. ويرجح ( زاكس) أنها مشتقة من القوس الموسيقي السومري.
ولم يكن العود أقل انتشارا من الكنارة والقيثارة . ويشتمل على عدد من الأوتار المشدودة على صندوق رنان مثل الكنارة ترتبط بالعنق من فوق. وتعفق الأوتار بأصابع اليد الواحدة لكي تعطي النغم فيما تغمز اليد الأخرى فوق الصندوق الصوتي . وتبدو عازفات القيثارة في تصاويرهن وقورات يغطين أجسادهن من العنق حتى القدم . أما عازفو العود فيبدون في بعض الأحيان عراة ملتحين أو بتصفيفات شعر مجدولة بصحبة بعض الحيوانات. وقد كانت الأعواد خفيفة وسهلة الحمل . ويختلف عدد أوتار العود بين نوع وآخر (4, 7, 8, 10) أوتار. وانتشر استعمال العود أيضا عند اليهود فاستعملوه في طقوس عبادة الله وفي مناسبات الفرح والأعياد (7) (خذوا نشيدا وهاتوا دفا وكنارة مطربة مع عود) (8) ونقل اليهود أعوادهم معهم عند سبيهم إلى بابل في (بلاد مابين النهرين) وعلقوها على أشجار الصفصاف على ضفاف نهر الفرات قرب بابل(9).
* الكنـــارة:إحدى أقدم آلات الطرب ولا تختلف عن القيثارة إلا القليل, بل غالبا ما يطلق الموسيقاريون نفس الاسم على الآلتين معا. والكلمة في العهد القديم تعني القيثارة. وقد اكتشفت في المقبرة الملكية في (أور) الكلدانيين وهي من اختراعهم وتتكون من صندوق صوتي ذي إطار غير منتظم الأضلاع تتراوح عدد أوتارها ما بين ثمانية وأحد عشر وترا وهي كأوتار القيثارة وتثبت مباشرة في جسم الثور وهي مصنوعة من أمعائه وتغمز بالأنامل لا بريشة الغمز. أما المادة التي صنعت منها الكنارات والقيثارات السومرية فقد سميت ضمن نشيد سومري ملغز يروي كيف هبطت انانا إلى العالم السفلي:
(يا والد انانا لا تدع ابنتك تموت في العالم السفلي. ولا تدع معدنك النفيس يكسوه التراب في العالم السفلي. لا تدع لازاوردك الجميل يقع تحت ضربات أزميل البناء . ولا تدع مالك من خشب البقس النادر يقع تحت رحمة عدة النجار. لا تدع انانا الفتية تنتهي إلى الموت في العالم السفلي. ويقال بأن هذه الكلمات كانت تشير إلى الكنارة نفسها, تلك الآلة الموسيقية التي كانت تصاحب ترتيل هذه القصص.
يذكر بولس الرسول في رسالته إلى أهل قورنثيه يقول: (بل الجمادات التي تصوت مزمارا كانت أو كنارة إن لم تبد فرقا بين الأصوات فكيف يعرف ما زمر أو عزف به) (10) ولم يهمل سفر الرؤيا بدوره ذكر الكنارة حيث يقول: (وسمعت صوتا كصوت مياه عزيرة وكصوت رعد قاصف. والصوت الذي سمعته هو صوت عازفين بالكنارة يعزفون بكناراتهم) (11).
* أنواع القيثارة:هناك نوعان مهمان للقيثارة في بلاد ما بين النهرين, وهي (القيثارة السومرية والبابلية – الكلدانية) بفروع متعددة اكتشفت في المقبرة الملكية في أور الكلدانيين.
أ- القيثارة المنحنية: وتتشكل من قوس يشبه نصف دائرة يصل بين طرفيه ضلع مستقيم لها أوتار رأسيه اشتقت صورتها عن القوس الموسيقية القديمة واتخذت الوصفة نفسها عند العزف. ونجد نموذجا من القيثارة المنحنية – الرأسية الأوتار – في متحف شيكاغو يعود إلى عام 2700 ق.م وآخر بمتحف جامعة فيلادلفيا. كما نجد نقشين آخرين للقيثارة المنحنية – الأفقية الأوتار – في متحف اللوفر يعود الأول إلى سنة 3000 ق.م, والثاني إلى سنة 2000 ق.م وأخرى مشابهة مطعمة بالأصداف محفوظة في المتحف البريطاني. ويعتقد العالم الموسيقي (زاكس) أن مس كل عازف لوترين مختلفين من الأوتار التي يمسها الآخرون لم يأت عفوا في رسم يتميز بالواقعية لذلك إن اختيار الأوتار الخامس والثامن والعاشر والخامس عشر والثامن عشر للعزف جاء نتيجة ضبطها وفق السلم الموسيقي الخماسي الأنغام.
ب – القيثارة المثلثة: وتتكون من ثلاثة أضلاع. الضلعان الرئيسان يحلان محل القوس المنحني يضمان بينهما زاوية عند استدارة القوس. ثم الضلع الثالث الرأسي الذي يصل بين طرفي الضلعين الرئيسين. وتثبت الأوتار في كلا النوعين رأسية أو أفقية ويعزف عليها بمسها بالأصابع أو بريشة الغمز. ويبدو إن ريشة الغمز كانت تستعمل مع الأوتار الأفقية لسهولة تحريكها باليد من أعلى إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى . وكانت الأنغام الموسيقية تؤدى أثناء ذبيحة الحيوانات وأثناء أداء طقوس القرابين. بواسطة أزواج من القيثارات الأفقية كما ورد في سفر المزامير. (فأدخل إلى مذبح الله إلى إله فرحي وابتهاجي واعترف بالقيثارة لك يا الله إلهي) (12) .
* الآلات المنغمة:ترك لنا الفن في بلاد ما بين النهرين شهادات مهمة بشكل أشعار ملحمية كملحمة كلكامش. أو بشكل أناشيد تمجد الآلهة والملوك العظام مرفقة بأنغام بعض آلات النفخ الموسيقية المصنوعة من الأنابيب كالمصفار, والبوق, والنفير.
أ- المصفار – الناي: استعمل السومريون الناي واسمه بالسومرية (جي – جيد) أي القصبة, خلال الألف الثالث ق. م كما ورد منقوشا على أحد أختام الملك السومري (كوديا). إن (انلوليم) راعي المعز كان يشترك في طقوس الإله ننجرسو ويعزف على المصفار ليدخل السرور على بلاد (اينينو).
وقد استعمل شعب بلاد ما بين النهرين المزمار المزدوج ذا الانبوبتين المتصلتين. كالمزمار المزدوج المصنوع من الفضة والمحفوظ بمتحف جامعة فيلادلفيا. اكتشفت في مقبرة (أور) ويرجع تاريخه إلى عام 2500 ق.م يحمل في كل انبوبة من الانبوبتين ثقوب.
ب – القرن: وهو إحدى آلات النفخ الهوائية استعمل عام 2400 ق.م فقد عثر في مدينة ماري على تمثال من الحجر لرجلين متجاورين وبيد كل منهما قرن. ونجد نوعين لها, الأول ذا انبوبة مستقيمة والثاني له انبوبة منحنية . وتذكر الوثائق أن من بين الهدايا التي قدمها الملك (توشرانا) إلى (امنحتب) الرابع ملك مصر حوالي عام 1400 ق.م أربعين بوقا مغشاة بالذهب وبعضها موشى بالأحجار الكريمة. منها سبعة عشر بوقا مصنوعة من قرون الثيران.
ج – النفير: نجد آلات النفير في نقوش آشورية تمثل عملية نقل تمثال (الثور المجنح) حيث يقف جنود في أعلى التمثال وهم يعزفون بالنفير. والظاهر بأن عملية النفخ بالنفير كانت صعبة مثل عملية نقل التمثال.
* سكان بلاد ما بين النهرين اخترعوا نظاما موسيقيا متطورا في أور وبابل:يجمع علماء التاريخ على أن بلاد سومر وبابل والتي عرفت باسم (بلاد الكلدانيين) كانت مهد الحضارة وفيها بدأ التاريخ وإن شعبها اخترع العدد والطب وعلم الفلك.. وفيها أيضا بدأت الموسيقى وسلمها ونظامها المتطور. كان تعليم الموسيقى إلزاميا في معظم مدارس سومر وبابل . وكل تلميذ يرفض هذا التعليم كان يعد متخلفا. وكانت هناك أيضا مدارس ملحقة بالمعابد كمعبد (شمش) ( وانليل).
* فن الغناء والرقص في بابل وآشور:إن الغناء والرقص فن عرفه الإنسان ومارسه في بلاد ما بين النهرين منذ العصور السحيقة وذلك للتعبير عن عواطفه وسعادته وأحزانه وأفراحه,ولأداء الإكرام لمعبوداته وللترفيه عن نفسه وأصدقائه ومحيطه. حتى أنه أصبح الغناء والرقص فرضا دخل معظم الطقوس لدى مختلف الأديان. وفي حضارة بلاد ما بين النهرين نجد المغنين والراقصات والنشاط الموسيقي الديني والدنيوي مثل خطاب لشمش اداد (1803 – 1781 ق.م) إلى ابنه يقترح ارسال بنات (ياهدون – ليم) إلى القصر في ( شوباط – انليل) كي يتعلمن الغناء (13). هذا كان ربما لأهداف دينية لتدريب كاهنات الهيكل أو دنيوية لتمرين سيدات المجتمع.. وكان الرقص يحتل بدوره مكانة كبيرة خلال الحفلات الموسيقية في تلك العصور السحيقة حيث نجد نقوشا عديدة اكتشفت مؤخرا ترتقي إلى عام 3000 ق.م وتبرز مجموعات من النساء في زي راقصات. كما نشأت فئة من المغنيين والعازفين المحترفين وطورت الآلات الموسيقية وفنون الغناء والرقص على إيقاعها . وخلال مجتمعات العصر البرونزي ساد غناء الأساطير التقليدية للآلهة والأبطال والملاحم يصاحبه العزف على الآلات الوترية . وكان تأثير حضارة شعب بلاد ما بين النهرين على يهود المنفى كبيرا من هذه الجهة أيضا. (ولما عاد عزرا إلى القدس من السبي البابلي صحب معه مائتين من المغنيات والمغنين) (14).
* الآشوريون.. أول من شكلوا الفرق الموسيقية العسكرية (15):
اهتم الآشوريون في عصورهم المبكرة بالموسيقى خاصة في عصر فجر السلالات بدلالة الآلات الموسيقية المختلفة التي عثر عليها المنقبون وكذلك مشاهد الطرب والرقص المماثلة على كثير من الأختام الأسطوانية التي تعود لهذه الفترة. وقد أدرك الآشوريون ما كان للموسيقى من أثر في معنويات المقاتلين, لذا استخدموها في إثارة الحماس في نفوس الجنود أثناء المسيرة وإبان حلهم في المعسكرات في بلادهم. ويعتقد أن الآشوريون هم أول من شكلوا الفرق الموسيقية العسكرية التي تضم مجموعة من العازفين على الآلات, في حين كان قبل ذلك مقتصر على الحفلات الغنائية والرقص. وكثيرا ما نشاهد أيضا صورا تنكرية لرجال يشتركون في العزف أثناء الاحتفال بالانتصارات التي حققها آشور ناصر بال (1050 – 1032) قبل الميلاد وتغلت بلاصر الثالث (744 – 727) قبل الميلاد, وآشور بانبيال (668 – 626) قبل الميلاد.
ومن المحتمل أن هذه الصور كانت على شكل ملابس تنكرية, وقد صور في إحداها جندي مع شخص آخر يرتدي كل منهما قبعة ذات ريش في حفل بمناسبة دخول آشور بانبيال مدينة ( مليكا ) وكانت الموسيقى تصاحب سير الحوادث وأنباء الحملات العسكرية عند عودة الملك منتصرا حيث تجري احتفالات بهذه المناسبة في العاصمة الآشورية يحضرها الملك بنفسه, ويتضح من كل ذلك أن الآشوريين قد جندوا الموسيقى في خدمة أغراضهم العسكرية شأنها في ذلك شأن أي مرفق آخر في حياتهم ويعرف نافخ المزمار عند الآشوريين بـ (زمارو), وأما العازف على القيثارة أي المغني فيسمى (نارو), ويسمى كبير الموسيقيين بـ (رب زماري). وأهم الآلات الموسيقية التي كانت مستخدمة هي : الطبل المدور الكبير الذي كان معروفا في عصور فجر السلالات . أما في العهود الآشورية فقد وجدت مشاهد صور عليها الطبل.. يعود أقدمها إلى آشور ناصر بال الثاني (883 – 859) قبل الميلاد وأحدثها إلى زمن آشور بانيبال.
ويشاهد في منحوتة تؤرخ إلى زمن سنحاريب عثر عليها في نينوى, عدد من الجند وخلفهم ثلاثة أشخاص كل منهم يحمل بيده جسما مربع الشكل, ويتدلى في نهايته السفلى شريط بهيئة قوس, ويظن أن هذا الجسم كان دفا مربعا بدلالة وجود نطاق يستعمله العازف لتعليقه أو حمله, وجندي رابع يحمل بيديه صنجين يدويين لكل منهما قبضة طويلة وهذه الصنوج استخدمت بكثرة في الموسيقى العسكرية لدى الآشوريين(20).
* بابل عاصمة الموسيقى والطرب في بلاد ما بين النهرين:إن تأثير حضارة بلاد ما بين النهرين على اليهود حقيقة ظاهرة وخاصة بالنسبة للمطلعين على تاريخ (التوراة) فلا عجب إذا كانوا المثقفين منهم (كالملك داود) وغيرهم قد استفادوا من الموسيقى البابلية, لأن في (أور) اكتشفت أولى القيثارات وكان داود النبي عازفا ماهرا عليها. (وكان إذا اعترى شاؤول الروح من لدن الله يأخذ داود الكنارة ويضرب بيده فيستريح شاؤول وينتعش وينصرف الروح الشرير عنه) (16). ويظهر هذا التأثير أكثر بعد العودة من السبي والدور الذي لعبته الموسيقى في حياتهم.
(وتكلم داود مع رؤساء اللاويين أن يقيموا اخوتهم مغنين على آلات الغناء على العيدان والكنارات والصنوج مسمعين لرفع الصوت بالفرح. وقسم داود المغنين والموسيقيين إلى أربع وعشرين فرقة) (17).
وكان اليهود علاوة على الموسيقى قد اقتبسوا الرقص في الاحتفالات الدينية من البابليين – الكلدان وجعلوه جزءا من احتفالاتهم الدينية . حتى إن داود النبي نفسه رقص أمام تابوت العهد (18). وكانوا يصحبون مع الترانيم معزف على آلات الغناء والرقص (19). وإن سفر الرؤيا الناقم على بابل يعترف ضمنا بأنها عاصمة الموسيقى والطرب, إذ يقول حاقدا: (وصوت الضاربين بالقيثارة والمغنين والمزمرين والنافخين بالبوق لن يسمع فيك من بعد) (20).
سفر الرؤيا والحقد اليهودي الأزلي على الآشوريين:أما اليوم وبعد / 2594 / عام لا زال الحقد (اليهودي الإسرائيلي الصهيوني ) الدفين يؤجج النار في صدورهم, تلك النار التي لا يخمد سعيرها ولا ينطفئ لهيبها, ولا زال آتون اوارها مشتعلا باستمرار على الشعب الآشوري صاحب أرض بلاد ما بين النهرين منذ أن قام الملك (نبوخذ نصر – 589 ق.م) بالقضاء على تمرد اليهود وعمل على سبيهم وإخضاعهم لسلطانه مدة نصف قرن من الزمن.
حيث نقرأ اليوم في أنباء وردت عبر البريد الالكتروني (إلى المصدر)(21) مفاده: أن دائرة آثار بابل قدمت احتجاجا رسميا ومذكرة اعتراض على ما تقوم به فرقة مشاة البحرية الأميركية من أعمال في منطقة بابل الأثرية حيث أنشأت هذه الفرقة مطارا وثكنة عسكرية على مساحة / 15 / كم مربع تقع فيها منازل ودور ملوك وقادة بابل, ومنهم الملك الشهير (نبوخذ نصر) حيث دمرت – البلدزورات – الأميركية وجرفت هذه الدور لإنشاء مطار فوقها . وقد كتب على هذه البلدزورات الأميركية عبارة تفصح عن كل الحقد والبغض والكره الدفين في قلوبهم, وحب الانتقام الذي يملأ نفوسهم: (اليوم ينتقم اليهود مما فعلت بهم يا نبوخذ نصر)!.
إبراهيم بادل
———————
* المراجع :1- ( من أوراق تقويم سنوي قديم )
2- (2, 4, 5, 6, 7, 8, 9, 10, 11, 12) إصحاحات وأعداد من كتاب العهد القديم
3 (جريدة بهرا – الضياء)
13- ايفا شترومنيغر: (ماري) تعريب قاسم طوير
14- منشورات المديرية العامة للآثار والمتاحف – دمشق – 1983
15- ثقافية جريدة ( بهرا – الضياء) العدد 230 – كانون الثاني 2004 ( خليل خضر العراقي )
( 14, 16, 17, 18, 19, 20 ) إصحاحات وأعداد من كتاب العهد القديم .
21 – الاتجاه الآخر – العدد 185 – ص: 3 – تاريخ 4 / 9 / 2004